أخبار عاجلة
الرئيسية / أخبار / قراءة تأويلية وجمالية في فيلم”المرآه” لآندرية تاركوفسي
سينمما

قراءة تأويلية وجمالية في فيلم”المرآه” لآندرية تاركوفسي

 

يعتبر فيلم “المرآة” الذي اخرجه المخرج الروسي أندرية تاركوفسي من أهم واعقد الافلام في تاريخ السينما، وقد تعرض الفيلم للرفض أكثر من مرة في أكثر من مكان، وذلك لتعقيده الفني والجمالي ومن حيث الفكرة. وقد تم الأنتهاء من تنفيذه في مارس عام 1974. ويعتبر هذا الفيلم مليئا بالتأملات والإحاطة بالزمن والذكريات وفكرة الوطن. وفيه صورة حلمية مكثفة المجاز والسرد الشاعري للصورة والأحاديث والموسيقي ، فالبطل يستعيد ذكرياته في الماضي، عن كل شئ، لياتي الماضي بصورة شاعرية في الحاضر، صورة غير مرتبة.

سنبدأ اولا بعرض بعض الملامح الجمالية لسينما تاركوفسي التي يأتي الفيلم في سياقها بل في ركيزتها، ثم نعرج علي جماليات فيلم المرآة من خلال قراءة تأويلية اشكالية أولية، ثم نتتبع ملامح الجمال في الفيلم واخيرا نقدم قراءة شاعرية له، وذلك باستبصار جمالي وتأويلي لافكار الفيلسوف الالماني هانز جادامر.

ملامح جمالية وصوفية
نستعرض هنا عدة ملامح وسمات لسينما المخرج تاركوفسي، ومنها ايضا ملامح تتعلق بالفيلم، ونري أن البعد الصوفي حاضر في سينما تاركوفسكي، فهناك حضور جمالي لافلاطون، فلقد تصور افلاطون الوجود الحقيقي بوصفه صورة متخيلة أصيلة، وتصور عالم المظهر بوصفه الصورة المنعكسة لهذا الأصل النموذجي. ، وهو ما نجده في سينما تاركوفسي وهو سينما تأملية حادة، انفعالية، الصورة بطيئة تجذبنا نحو الشاعرية الحسية، وادراك المعني الشامل والكلي، الذي يظل يحلق لا يمكن مسكه والظفر به، فهناك حالة من الرموز والمجاز. فقد ادرك اندرية تاركوفسكي في مشهديته نحو المطلق الجمالي، التراث الافلاطوني لمعني الجميل، والتخيل الاصيل للوجود الحقيقي، فتجليات ولمعان الحقيقة متمثلة في أبعاد الصورة السينمائية لدي المخرج الروسي نحو الصوفي، ونحو المعني الباطني.

هذه الخبرة بالفن والجمال لدي أفلاطون هي التي تسيطر علي مخيلة تذوق البشرية للفن، استطاع تاركوفسي ان يقترب من البعد الافلاطوني للجميل، حيث التجسيد الالهي في الفن، والنزوح نحو المعني الصوفي، والبحث عن لذة الشعور بكينونة الوجود متجسدة في الاشياء، الذكريات والاحلام والطبيعة وذرات التراب والهواء والماء وندي السماء وألوانها، وأيضا يظهر الموقف الجمالي التاركوفسي نحو الحرائق المشتعلة والنار والامطار ولمسة الشجر، وسيدة تنظر من فوق تلة، ورجل يبحث عن تاريخ بهلفة دينية الهية، البحث والاثر، والحضور والغياب والتمثل لدي الاشخاص كل هذه عوالم تاركوفسي نحول الجميل الصوفي الافلاطوني، الجميل اليوناني يحضر ويغيب، الامر اشبه بعوالم خصبة مليئة بالهذيان الصوفي، والانشاد السينمائي لمخرج يفكر دائما في تجلي الجميل والحقيقة، فهناك تذوق لحظي لكل مشاهد حول الجميل تجربة فائقة الارتجال. غاستطاع تاركوفسي الاقتراب من الاستقرار في عمق تذوق البشرية نحو الجميل.

والملاحظ لسينما تاركوفسي لفهم الجميل يدرك معناه عن كانط، حيث يكون الجميل في الفن يكتسب شرعيته كونه نتاج العبقرية، فهو ينبثق من خلال قوة لاواعيه مستلهمة مباشرة من الطبيعة، بهدف ابداع اشياء ممثلة للجمال دون تطبيق واع للقواعد، حتي ان الفنان نفسه لا يستطيع أن يبين علي وجه الدقة كيف انجز عمله وهو ما نلاحظه في افلام المخرج تاركوفسكي وخاصة فيلم المرآة، فهناك حالة من العبقرية المبهرة، عمل يتحدي المتلقي، فتاركوفسي ينظر لنفسه بأنه صنع العمل وابتعد عنه، تظل العبقرية والخلق سمة أساسية لدي سينما هذا المخرج.

والصورة لدي تاركوفسي هي حالة من الطبيعة، والوفرة في استخدام عناصر الطبيعية، موجوده بعناصره الاربعة، الماء والهواء والنار والأرض، لذا تفسير المعني البصري والسردي لدي تاركوفسكي هو اشبه بتعقيد تفسيري للغاية، فهناك توليد لكثير من المناحي الجمالية السينمائية لا حد لها، فهناك تكثيف للمعني المجازي للصورة خلق اشكال جديدة من المجاز، فقد يكون هناك من حالة من التوسيع في المجاز لدي تاركوفسي، فقد يكون الأمر، اشبه بحالة من الانتباه نحو الطبيعة، وهنا يتجلي الجميل لدي الفيلسوف هانز جادمر، الذي يشدد علي أهمية عنصر الطبيعة، والذي يساعد في لفت انتباه المتلقي، حيث هناك شئ خاص بالفرد يمكن التعرف عليه من خلال تجسيد الطبيعة، ورغم نقد جادامر للفن المعاصر، الذي لا يلتفت كثيرا للطبيعة، وان كان يلمتس معه في شئ من الطعبية، الا أن تاركوفسي في فيلم المرآه انتبه لمعادل الطبيعة، فكانت الكادرات والمشاهد في عمق الطعبية، فلم تكن الطبيعة معادل بصري ثانوي او جزئي للسرد او رمزا لشئ، وانما تجاوز الأمر أن الطبيعة أصبحت معادلاً شاملاً لرؤية المخرج والتأمل البصري والحسي للفيلم.

وتتميز سينما تاركوفسي بالبعد الحسي والمجازي دائما، وايضا الصورة الجميلة، اشبه بالتنويم المغاطيسي، حيث يدخل المشاهد العالم التاركوفسي ويندمج، ويصبح جزء من المشهد، وذلك بفعل الشاعرية والحسية، وليس السرد التشويقي والحكاية الجذابة، فليس هناك حكاية لديه، بشكل دائماً، وفي فيلمه المرآة محل البحث، هناك حالة حقيقية شبيهة بالحلم، فليس هناك تصور للواقعي أنما تصور المدرك الحسي، حيث الكلمات تكون قليلة التعبير بالصورة يكون فائقاً ومكرراً بدون ملل، مجرد ابيات شعر تتجسد في صور ولوحات فنية. ويقول تاركوفسكي في حديثه عن افلامه “أنا أتابع الفكرة بشكل لاواعي أو لاشعوري. بكلمة أخرى، إنها كما لو أنني كنت أروي قصة نفس الشخصية في كل مرة : قصة انسان يعتبره المجتمع ضعيفاً، فيما أعتبره أنا قوي”. وذلك يؤكد أنه لا يهتم بالحكاية وتفاصيل الشخصية.

وفي سينما تاركوفسكي الشخصيات ليست ابطالاً فهو يرفض النزعة التي تعتبر أن البطل ينبغي أن يكون شيء ما هائلاً، ضخماً وجباراً، أو عنيفاً وقاسياً، ويبر ذلك أنه دعوة للاستنساخ، وأنه أكذوبة مكشوفة، فهو يلغي دور الفنان والبطل في الفيلم، من اجل رؤية الكلية، وادراك معني ما يشير اليه، او عالم بصري جميل للمتلقي، هو بذلك يتوافق مع رؤية هانز جادامر في الفن، الذي يري أن الفنان القدير يمثل الطرف المقابل لحالة الفن الهابط. ويقول “أنه عندما نصبح واعين بممثل ما، أو بمعني ما بأي فنان أخر، بوصفه وسيطا، فالتأمل يصبح مستوي ثانوي، وتنعدم خبرة الملتقي بالعمل، فهناك وسيط يمثل مركزية يسيطر علي المشاهدين، حيث يكون الاندهاش الحقيقي من العمل بدون حضور الفنانين الطاغي، حيث لا يعرضون انفسهم”، ودورهم يتمثل وفقا لجادامر في استحضار العمل وتماسكه الباطني في نوع من الوضوح الذاتي غير المتكلف.

وتاركوفسي خلال افلامه لم يتجه نحو التكلف والمغالاة في التصوير، ويقول عن افلامه ” أحب أن أغير طريقة أفلامي ولا أدري كيف. سيكون ذلك رائعاً، أن تصور فيلم بحرية تامة، تماماً مثل الهواة حين يعملون أفلامهم. نبذ الميزانية الباهضة. أحب أن تكن لدي الأمكانية لمراقبة وملاحظة الطبيعة والناس بعناية، وأن أصورهم دون عجالة”، ويأتي ذلك تماشياً مع موقفه من سرد القصة، وعدم أهميتها في الفيلم،وايضا دور البطل والشخصيات في الفيلم، فالقصة لديه تخلق وتأتي من خلال ملاحظاته وافكاره، وليس هي الاساس الذي ينطلق منه رؤيته وفيلمه، وذلك يؤكد أنه لا يسعي لفيلم تقليدي وسينما معتادة، ولكنه يجتهد نحو تجلي الجميل الدائم في الصورة وفي المشهد، يشعر المشاهد ان هناك المزيد والمزيد ينتظره.

قراءة تأويلية سردية للفيلم
ممكن نوجز قصة الفيلم أذا قلنا انها قصة مجازاً وذلك قبل البدء في قراءة تأويلية، الفيلم يحكي عن رجل بطل الفيلم لا يظهر بوجهه طوال احداث الفيلم، ويتذكر ذكرياته من جديد، منذ الطفولة مروراً بالمراهقة، ويسرد امام عينه بصوته، ما مر بحياته من احداث واشياء وعلاقات مدمرة، وعلاقاته الاجتماعية مع والدته واخوته، والأخرين، وذلك يكون هناك تذكر وحضور الماضي في الحاضر، وهناك مرآة معلقة تعتبر اداءة رئيسية في انعكاس الاحداث واستحضار الماضي، وهناك مثلا بعض التفاصيل مثل عرض الفيلم لبعض الصور والفيديوهات حول الحرب العالمية الثانية، ورموز عن حكم السوفيتي، ويعكس الامر دخول الاتحاد السوفيني الحرب والمجتمع، فهذه خلفية سياسية اجتماعية، بجانب مثلا ان زوجه البطل تشبه والدته، وتفاصيل أخري عن الاشياء في بيته وبيته القديم من اواني ودولايب وأسرة واشياء أخري، بالفيلم باختصار، رحلة لحضورالماضي في الحاضر.
ونبدأ هنا في قراءة تأويلية للقصة والصورة، بمعني محاولة ابداع نص موازي للفيلم، فيبدأ الفيلم بحالة من الحلم، شاب يحاول الحديث، فالفيلم سيبدأ وهوا يحاول الكلام، كأنه عوالمه تحضر، وتقول انه سيبدأ عالمه، هو صاحب السرد، وصاحب الحكاية، هو ذاته الفيلم، وذاته القصة والصورة، يمتلك هذا الرجل الذي يسرد ماضية خلال الفيلم، وكل شئ، يتحقق ذاته من خلال حديثه وحضوره الروحي، وليس الجسدي، اشبه بتعليق للكلام، محاولة للحوار مع الذات، من بعيد، وخلق شخصية أخري للحديث مع الأنا، عبر صورة حلمية دائمة.

وتظهر الأم كأنها حالة مضطربة، لا تتحدث كثيراً، تنظر هنا وهناك بايماءات تعبيرية، عن انتظار اشياء كثيرة، نظرتها عيونها، لا تعرف ماذا تقول، ولكنها تنظر في اتجاه الماضي، في اتجاه البعيد، هل هو الانتظار الطويل يحيط بها، تنظر الي حرائق الجيران في منظر طبيعي وكادر يجمع عناصر الطبيعة الاربعة، الماء والنار والهواء والارض، مناجاة للطبيعة، وكادر لا يخذل تجلي الجميل والجليل، ومشاهدة للريح عندما تهب ترمز لحضور اشياء غير واضحة وغير مرئية، هي حضور للغايب والماضي، وهي حالة الفيلم استدعاء حضور الماضي بشكل دائم، بمعني الحديث مع الزمن، وحضور ابعاده الثلاثة، يظل هذا الرجل يحكي عن ماضيه، وكانت الموسيقي لها دور في خلق الماضي من جديد، الموسيقي تعانق الصور، هناك حالة من الموسيقي التي تتحدث عن ماضي يأتي ويتحدث، فالموسيقي حالة لوحدها في خلق وعي بذكريات بعيدة، تتحدث للذات، تظهر كومضات متعددة. والموسيقي كانت قريبة من تفاصيل الطبيعة، من تكوينات المشاهد، قريبة من الهمس الداخلي للراوي الذي يتحدث عن ذاته، مليئة بالايحاءات الشعرية، والهمس السمعي، فكان الامر اقرب الي حاجة إلي آذان صاغية لهذه الموسيقي، وصمت باطني لما يسمع، المرآة هي الشاهد لما يدور في الفيلم، لتتحدث الذات عن نفسها، وتسرد هذه المرآة علي لسان البطل كل حدث كأنه ايقونة لوحدها، حدثاً لا يمكن ان يتكرر، يتم حضوره وتذكرته بحالته الفريدة، والشعور به، نري الرياح تأتي وتخترق المشهد بين الأم والرجل الغريب الذي ظهر فجأة وهي تنظر له، هذه المشهدية للريح، تأتي لتعبر عن عنصر الغياب، تصبح الطبيعة عنصرا للتعبير عن شئ ما.

تأتي مكالمة هاتفية، لحضور الماضي، الزمن يسترجع نفسه ويحضر ويختفي المتحدثين بحضورهم المضي، يظهر اركان المنزل واشياء وتفاصيل، الصوت فقط يظهر، اشبه بصورة حلمية ومجاز، والدخول الي اعماق المكان، تحليق حول تفاصيل الماضي حول البطل ووالدته، يظل الأمر شاعرياً، يريد البطل كل شئ في الماضي أن يحضر، الام، التفاصيل، والحديقة، وتفاصيل المنزل كأن الحاضر هو تمثل للماضي، استدعاء مستمر، تأتي زوجته، ويقول لها ان شبه والدته، الانثي بالنسبة له هي انثي الماضي، هي الام.

قراءة جمالية للفيلم
بالاساس يدور الفيلم حول الذاكرة، والذكريات، قطعة حسية للصورة تروي ما هو ماضي، تداخل الحاضر بالماضي، والمشاهد السابقة يتم استحضارها دائما، المروي البطل، دائما يستحضر الماضي، احاسيس دائمة تتسلل وتغلف الذكريات المرويةً، هذا الحضور الشاعري للماضي، يجعل المشاهد يتلقي قطعة من الحياة الحقيقية، فقد يكون مكان البطل وهذه الذكريات، ويتداخل الحلم مع الذكريات طوال المشاهد عن طريق فعل التذكر والاستبصار الصوفي لكل شئ، وتكون هذه الذكريات عبر الوثائق الأرشيفية، كأحد العناصر، بجانب أعادة العالم القديم بشكل تخيلي، والذي عاشه الطفل، حيث يتداخل اللامرئي في العالم الشاعري والحسي. ونتناول هنا عدة ملامح للفيلم بداية بتأثير الشعر الجمالي، ورمزية الزمن، رمزيات الفيلم، وتجلي الجليل في الفيلم.

شعر الصورة
والتفت تاركوفسكي نحو الشعر كثيرا في المشهدية، وفي الصورة، أعطي للشعر حقه، كان يريد ان يكون للشعر قول، فكانت الاشعار من جانب والده أرسيني تاركوفسكي، وكان عن طريق راوي الفيلم غير المرئي، وهو البطل، الذي كان يتعالج من عدم القدرة علي الحديث في بداية الفيلم، فكان هناك معني ورمزية في هذا اللمحة من تاركوفسي، يريد المتلقي أن يفكر فيه، وكان الشعر حول معاني وجودية وفلسفية، وايضا حول العزلة الروحية والموت، وامتزج الشعر ايضا بمشاهد الفيلم من طبيعة وشخصيات، كانت تعبر عن الرؤية والصورة، ولم تكن بمعزل او تكلفا علي الفيلم، وهنا يتجلي الجميل الشعري في الصورة السينمائية لدي تاركوفسكي، حيث يشير هانز جادامر الي أهمية الذاكرة الشعرية في مجال الحقيقة ذاتها، فالشعر قادر أن يكون رابطة تسعي لربط موجوداً بشرياً بموجود بشري آخر، فالشعر يصنع حوار اصيل، وهو ما وظفه تاركوفسكي في الصور، فكانت الاشعار تريد قول شئ وتتناسب مع المشاهد، وكان وضع القصائد له معني متجدد في الفيلم، وذلك تناسبا مع روح المشاهد، فكان الحديث عن المرآة، والذكري واللقاء والحلم، فالكلمات تقول شيئا متجددا مع الصورة، وهو ما اشار اليه جادامر حول الشعر، بأن قصيدة الشعر لا تكون ماثلة أمامنا كشئ يوظفه شخص ما ليخبرنا شئ ما، والقصيدة تكون ماثلة بشكل مستقل عن كل من القارئ والشاعر علي السواء، فالكلمة تبقي مكتملة بذاتها بمنأي عن أية عملية قصدية.

ومن شرح جادامر لعدم قصدية الشعر نلاحظه أن الاشعار ليست بها قصدية مباشرة، وأنها لا توضح معني مباشر للفيلم، فرغم ارتباطها بالفيلم والمشهد والروح الا أنها عالم شعري مستقل بذاته، عند تأمله لوحده او مع المشاهد السينمائية يكون هناك عالماً جديداً، يظهر في كل مرة بمعني جديد للمتلقي، فهي ليست أغاني مباشرة لحالة الفيلم، تأثيرها يكون مكملاً، كباقية الافلام، ولكنه عالماً شعريا خصباً يستقل بروحه ومجازه ورمزه البلاغي دائماً، ومن الاشعار التي ظهرت بالفيلم:
القصيدة الاولي
للإنسان جسم واحد كأنه في عزلة
وجزعت النفس من هيئتها الأبدية
ذات الأذنين والعينين بحجم قطعة الدينار المعدنية
والجلد الذي تكسوه الندوب والملبوس على الهيكل
تطير النفس عبر قرنية العين إلى الأريكة السماوية
إلى الشعاع الجليدي لمركبة الطيور
وتسمع عبر القضبان لزنزانتها الحية
ضجيج الغابات والحقول
وصوت أبواق البحور السبعة
من الإثم للنفس البقاء معزولة عن الجسم كأنها جسم بدون قميص
ليست لها فكرة ولا عمل ولا منهج ولا سطر
لا يوجد حل لهذا اللغز.. من سيعود للوراء
بعد أن أرقص في ذلك الميدان حيث لا أحد ليؤدي الرقصة؟
إنني أحلم بالنفس الأخرى وهي بالثوب الآخر
تحترق أثناء هروبها من وجل إلى أمل
نار كالكحول بدون شبح تسير على الأرض
تاركة للذكرى على الطاولة
عنقوداً من عطر زهرة الليلك

تجلي الجليل
ويتضمن الفيلم كثير من المشاهد التي تشير إلي مفهوماً مختلفا عن تجلي الجميل، وهو يتعلق بالشعور بالجليل، والرهبة، فهناك مشاهد كانت مليئة بهذه المشاعر، مثل مشهد غسل شعر رأس الام بطلة الفيلم عن طريق يد رجل لا يظهر، وتكون الأم في المشهد وافقة علي قطعة حجرة، والمكان يتصف بالقدم وبه تقشير علي الحوائط، والسقف يسقط منه اجزاء بجانب انهمار الماء من أعلي، كل ذلك يعني احساساً بالرهبة، ولكنه لا يمثل الاحساس الذي يتجسد في افلام الرعب، فالامر مختلفة للغاية، شعور بالجليل مختلف، وليس مكثفاً، للدرجة الشعور بالخوف الشديد والهلع، ولكنه جليل شاعري مجازي، وذلك بتجلي الجليل، كما يصف الفيلسوف كانط، بأنه يحقق مهمة إدراك الضخم اللامحدود في فعل من افعال الحدس، او الاحاطة بالشامل الطاغي والنهوض لمواجهته، ويكون الجليل هنا في مجمل الطبيعة، ويحدث خبرة للتذوق تفوق خبرة المشاهد وخيلته، ويحدث حالة من الانبهار والتجلي والتعالي.

والفيلم شهد استخدام المكان وتفاصيله من أدوات منزلية، وخزانات ملابس، ومرايا، واكواب، واباريق، وكل هذه الاشياء من اجل التذكر، وقد لافت برغسون الي احلام يقظة الانسان، واكتشاف الماضي والحاضر والمستقبل، فخزانات الملابس كانت لتذكر البطل لايام الطفولة، وكانت هذه المشاهد تعبر عن احلام اليقظة التي تمثل عنصرا مهما في مفهوم الجليل، وتتشارك هذه الاشياء مع البطل بشكل دائم لتعبر عن ذكرياته. ويحمل الفيلم اشارات لتخليد الذات، فوفقا للمحلل النفسي اوتوررانك فإن هناك حاجة إنسانية غلابة نحو الاستمرارية، نحو تخليد الذات، وإن هذه النزعة هي التي قادت الإنسان نحو تطوير حضارته، ويلاحظ ان الفيلم هناك حالة من تخليد الذات بفعل التذكر والتركيز حول ماضي الذات، وخلق قرين مماثل يتحدث معه ويحاوره، وينبش في ذكرياته.

وثيقة تاريخية
نلاحظ خلال أحداث الفيلم، التي لا تعتبر مكونة لحدث رئيسي له بداية ونهاية، بها أحداث تاريخية، وسياسية، فهي تشير الي ملامح في الواقع، وذلك عبر لحظة واشارة، وليس معني محدد ومؤكد، في المشاهد، وذلك ما يجعل الفيلم داخل التاريخ، ويخاطب وعي المشاهد التاريخي، ووفق لهانز جادامر يصبح العمل الفني له وظيفة، وذلك عبر إشارات تاريخية، فحواس المشاهد تنتظم بطريقة روحية علي نحو تصبح معه قادرة علي ان تعين خبرة بالعمل الفني، ويصبح المشاهد قادراً علي تأمل الذات، وتوتر الوعي التاريخي بالأحداث، وهذه التفاصيل التاريخية، تصنع في وقت واحد وعي بالتاريخ، وتساعد في فهم الآخر، وحضوره، ففي لقطات في الفيلم، حول الاتحاد السوفيتي ودخوله الحرب العالمية الثانية، وكان الحديث ايضا عن روسيا بعد الحرب، ومشاهد حول تدريب الاطفال اطلاق النار، يدل علي علاقة الفرد بالنظام الشيوعي، وطرح اشكاليات حول هذا النظام، وهل هناك حريات ام لا، وهناك مشاهد مطولة حول قيام الأم، بالبحث عن خطأ تعقد انها ارتكبتها اثناء عملها كمراجعه في جريدة، فتشعر بالرعب والخوف، وتتعرض لحديث قاسي من احد الزملاء، كل ذلك سرد لطبيعة الحياة السياسية والاجتماعية، واشارات كثيرة للمعني، وايضا اظهار النظام الاداري والبيروقراطي، وشكل المباني والجدران كل ذلك في مبني الجريدة، التي قد تعبر عن رؤية الحزب.

وهناك لقطات ايضا حول النظام الشيوعي في الصين ممثلاً بماو تسي تونغ، خلال إدراج مشاهد واقعية تظهر الإقبال الجماهيري الهائل في الصين، ورفع صورة ماو تسي تونغ في كل مكان. وذلك يوضح ان هناك حالة بانورامية للنظام الشيوعي، وايضا هناك رمزية الاسرة المتمثلة في الابن والزوجة التي تنتظر الزوج الذي يذهب للحرب، وهناك مشاهدة للقنبلة الذرية اثناء سقوطها علي هروشيميا، وهناك مشاهد حول الحرب العالمية الثانية، وكل هذه الاحداث التاريخية، تعبر عن حدث انساني ووثيقة تاريخية قابلة للحضور والتكرار، ويمكن التعرف عليها من خلال تلقي الفيلم كعمل فني يتضمن هذه الاحداث والاشارات التاريخية.

رمزية متعددة وباطنية
الفيلم مليئ بالجانب والرمزي والتوتر الدائموتعدد المعني الذي يتكشف مجددا، فهو يبتعد عن الحبكة التقليدية والاشارة المباشرة، والمعني البسيط الذي يعبر عن نفسه للمشاهد بكل اريحية، وايضا يبتعد الفيلم عن الحدث التقليدي، الذي يفرط تفاصيله تباعاً، والشخصيات المعتادة التي تظهر قدرة تمثيلية هائلة وتفرد نفسها في المشهدية، ولكن هناك الانقطاع والتفتت، والتشردم، وعدم وجود وحدة شاملة للمعني والرؤية، فالصور تأتي لتعبر كل صورة عن ذاتها في حالة من التمثل، وليس مرتبطة ارتباطا تقليدية بالصور التي قبلها او بعدها او المعني الكلي للفيلم، في ذاتها معني وتمثل.

والرمز وفقاً لهانز جادامر نجد فيه الجزئي يمثل ذاته ككسرة من الوجود تقدم وعداً بأن تكمل أي شئ يكون مناظراً لها وتجعله كلاً صحيحاً. أو أن الرمز في الحقيقة يكون بمثابة تلك الكسرة الأخري التي كنا نبحث عنها دائماً، لتكمل حياتنا الخاصة المتجزئة وتجعلها كلاً صحيحاً. ويحتفي بالفيلم برمزية تبحث عن شئ يكملها، فالماضي والذكريات التي يرويها بطل الفيلم، تبحث عن المكمل، هذا الرمزي لدي جادامر يظل حاضراً طول مشاهد الفيلم، فالمشاهد يصل بعد جهد كبير الي كلاً بعد تسرب مشاهد الماضي له، وصياغات عديدة للاشياء المتناثرة والمشتتة. فهناك خواطر للقصص لسيرة حياة البطل، كأنها مذكرات شخصية ليس مرتبة تريد ترتيب ونظام كامل يجمعها، وكأن العمل بمثابة ابتهال دائم في طلب نظام للأشياء كلي.

المعني في الفيلم يتفاعل بين الاظهار والاخفاء، فالمعني لدي البطل والصورة والذكريات يكشف عن نفسه كل مرة في المشاهدة، فليس هو بشئ ثابت، فحلمية المشهد وتكثيف حضور الماضي والزمن، يعطي تجلي للجميل والمعني بشكل متجدد، فيقول جادامر إن ماهية الرمزي تكمن بالضبط في كونه غير مرتبط بمعني نهائي يمكن استرداده في مفاهيم عقلانية. فالرمزي يحفظ معناه في باطنه. هذا الباطن، يجدد المعني دائما، فحكايات الراوي عن ماضيه، وتداخل الصور التي تتضمن تفاصيل مثل المرايا الاكواب واللوحات والكتب والابواب والطيور مع السرد والموسيقي، يعطي معني مع كل مشاهدة، او ان أثر ذلك يكون متدرجا ومختلفا مع المتلقي، الذي يشعر بتطور ما او بتجلي متجدد لديه.

فلسفة الزمن ورمزيته
يقول تاركوفسي السينما “لدي طريقة لامساك الزمن الذي يمنحنا القدرة علي التقدم والرجوع بحرية خلال الأبدية”، هنا ينتهي الاقتباس خلال الفيلم هناك زمنين، زمن البطل ألسكي والام، وزمن الابن وحياته عندما اصبح رجلاً، وهناك حالة من القبض علي الزمن، وحضور الماضي في الحاضر، وتداخل الزمنين في عدة مشاهد، يعبر عن الزمن في الذاكرة، التي تعيش الحاضر وهي تتذكر الماضي، الذي يحضر دائما ويشارك في تشكيل الواقع وتفاعلاته، حيث يقول تاركوفسي في كتابه النحث في الزمن ” الماضي بالنسبة لكل واحد منا، هو الحامل لكل ما هو مستمر في واقع الحاضر، لكل لحظة جارية . الماضي أكثر حقيقية، أكثر رسوخا واستقرارا أكثر مرونة من الحاضر. الحاضر ينزلق ويتلاشى كالرمل بين الأصابع، محرزا ثقلا ماديا فقط في تذكره”.

وهنا تأتي اهمية الماضي في الفيلم، ودوره في زمن الفيلم، وكما ذكرنا الاحداث ليس مرتبة، ولم تمثل حدثا يتتابع اجزاءه من اجل الوصول الي معني محدد وقصة، وانما هناك تناثر وتشويش في الزمنين الماضي والحاضر في الفيلم، فهناك نقلات بينهم بشكل غير مرتب واعتباطي، وذلك كما يحدث لدي الانسان العادي يتذكر اشياء في الماضي وهو في الحاضر، مما يثير لديه بعض المشاعر قد يجعله يتصرف علي اثرها، أو الشخص يستدعي الماضي من اجل فهم الحاضر، فهناك تفاعلية وديالكتيك مستمر بين الزمنين.

ويقول تاركوفسي أيضا ” الزمن والذاكرة يندمجان في بعضها البعض. إنهما اشبه بوجهي العملة. وواضح تماما أنه بدون الزمن، الذاكرة أيضا لا يمكن ان توجد. لكن الذاكرة شئ معقد جدا الي حد ان أي بيان بخاصيتها وصفاتها المميزة لا يمكن ان يحدد مجموع الانطباعات التي من خلالها تؤثر فينا الذاكرة. الذاكرة مفهوم روحي. علي سبيل المثال، لو ا خبرنا شخص ما عن انطباعاته بشأن الطفولة، فإننا نستطيع أن نقول بثقة أنه ستكون لدينا مادة وافية لتكوين صورة كاملة عن ذلك الشخص”. ويمثل هنا ضرورة في الفيلم معني الطفولة وعلاقتها بالزمن والماضي، والحاضر، فتاركوفسي يري أن الطفولة تعبر عن الشخص، وقد اعتمد ذلك في سردية الفيلم. ويأتي فيلم المرآة كمقطع من رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود». حيث هناك معني مفقود يجب ان يقبض عليه، واستعادته، هو كان لدي الاديب بروست في عمله.

قراءة شاعرية
أحداث تاريخية للحرب والسياسة، والصراع، روح المجتمع والسياق التاريخي والحربي، يحيط بالصورة، هناك حيوية للمجتمع والبعد التاريخي والصراع السياسي يظهر، ملامح تاريخية، ونقد لاذع، وروح للوعي بالتاريخ، تظهر صور وثائقية كثيرة عن المعارك التي خاضتها روسيا خلال الحرب العالمية الثانية، وهناك اطفال تتدرب علي رمي الرصاص من البنادق، الاطفال تعبر عن تاريخ عسكري، عن اجواء الحرب، تصبح الصورة كاملة، فهناك اشارة للاجواء المحيطة، البراءة والطفولة تشارك عن التعبير عن ذلك.
تتولد البداية من رحم النهاية، الصمت يحدث ضجيجاً، البراءة تعبر عن الاشياء الاكثر قسوة، الامل يفرط في سؤال وجوده، الحياة تخالط روائح الموت، الحاضر يستدعي الماضي في ثيابه علي الارفف، اركان الحجرات تكشف عن ماضيها القديم، الام والاب، بعيدون ولكنهم حاضرون بمجاز مرسل، الشعر يلبي نداء الحقيقة، الرمز يستهوي نفسه، ويكتب الإذعان الجديد.

الموسيقي ترفض المحاكاة، وتذهب بأطلاق للتعبير والمعني، وتغازل الصورة وتصل لحسية المشاهد، اللغة تجتمع وليس لديها شفرات، فالمعني يذوب من شاعرية مطلقة نحو عذوبة تنتظرها، الطبيعة بحفيفها ورياحها معاني رمزية يستدل عليها من لمسة الأعين ومحاولات كثيرة، الاحباط يهاجم ويتعدد بمحاولة انجاز المعني والشعور بملل الصورة، ليس هناك تكرار لتجلي الجميل، الامر اشبه بنزوة لا تكف عن التكشف والظهور.

الزمن يتحدي كل صور الحضور، يتجلي كل لحظة بمعني جديد، هناك نداء لوعي الذات بالتاريخ، حضور الاجداد، حضور احداث كتب لها ان تنتهي، الاباريق ورائحة الطين، وحمامة تجلس علي سرير، ومرآة لا تكف عن احباط متكرر، الأيماءة والرمز تتجلي في نظرات الاشخاص، الاطفال والبنادق وسرد حكائي يصل لنا عبير كلمات واشعار بها معني يتولد بلا توقف.

المصدر :*محمد الغريب /عين على السينما 

شاهد أيضاً

اردنيات

الأردن..تمكين المرأة يواجه تحديات في بيئة العمل وبناء القدرات

أظهر تقرير سير العمل في الربع الأول من البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي، وجود تحديات …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Powered by moviekillers.com