«أحب أن يُصنّفنى العالم إنسانيًا: (مريم هرموش الإنسانة)، لا تهمنى توصيفات الكاتبة والأديبة، فقط (تحدث حتى أراك)، أنا امرأة عادية، عادية جدا، ككل البشر..».. مفتتح يليق بكاتبة استثنائية، احترفت الكتابة والإبداع منذ طفولتها، لا تخطط أبدا لما تكتبه. فقط، تسير خلف إلهام يأسرها، فتجد نفسها متورطة معه، لتنسج تفاصيل حكايتها.
وحكاية «مريم هرموش»، الكاتبة والروائية، لبنانية الأصل، مصرية الهوى، كما ترى نفسها، بدأت خربشاتها الطفولية هناك تحت أشجار الأرز، قبل أن تسطر المزيد على صفحات حياتها البيضاء متنقلة من آسيا إلى أوروبا، حتى أستقر بها المقام فى حضن الفراعنة، تعايشهم وتكتب عنهم وتصبح واحدة منهم..
معجبة مريم بشعر أدونيس، صديقها وشاعرها الذى تؤمن بأنه صنع وجدانها، أسمعها تردد معه: «حينما أُغرقُ فى عينيكِ عينى.. ألمح الفجر العميقا.. وأرى الأمس العتيقا.. وأرى ما لست أدرى.. وأحسّ الكون يجرى.. بين عينيكِ وبيني»، كما يعجبها جبران ونجيب محفوظ، وكتابات فى الحب والحياة.. ربما حوار معها لجريدة «المصرى اليوم» يقول بعضًا من «مريم هرموش».. فإلى نص الحوار:
■ مهمومة أنتِ بالمرأة وقضاياها.. بأحلامها وطموحاتها.. بنظرة مجتمعاتنا الشرقية لها.. ترى هل كان كتابكِ الأول «هرتلات نسائية» كافيًا لتعريف الشارع العربى والمصرى تحديدا بمن هى مريم هرموش؟
– كانت المرأة بشكل عام هى هدفى الأول فى «هرتلات نسائية»، خاصة فى ظل عدد من الكتب المنتشرة التى تصنف المرأة من كوكب، فيما ترى الرجل قادمًا من كوكب آخر، فرأيت أن أقرّب وجهتى النظر بعيون أنثى، فأنصفت الرجل جدا فى الكتاب، وتحاملت قليلا على المرأة. وضعت يدى على مشكلتها الأساسية: أننا ندخل دائما العلاقة بين رجل وامرأة بتوقعات وطموحات عالية، أحببتك كما أنت، وأحببتنى كما أنا، فلماذا إذن يريد كل منا أن يصبح الآخر نسخة منه؟.
لماذا تريد بعد الزواج أن نصبح كيانا واحدا لا ينفك ولكل منا طبيعته الخاصة المنفردة؟
.. أردت أن أوضح أزمة فكر لدى مجتمعنا الشرقى، مضمونها أنكِ «لو مش مرتبطة أو متجوزة ده بيقلل منك»، وبحكم معايشتى للغرب وقتا طويلا، تأكدت من نظرتهم لتلك النقطة تحديدا، وهى «إن كنتِ متحققة مع ذاتك، فلن تنتظرى أن يكملك رجل أو زوج، فقد تنتهى تلك الصفات وتعودين لفراغك وسقوطك من جديد».
لقد تحدثت فى كتابى عن نماذج كثيرة حقيقة، لم أكتب من فراغ، فأنا قريبة جدًا من أصدقائى وأنصت جيدا، وغالبا ما أكون الملجأ لهم فى مشاكلهم، وكأننى الناصح المزعج والضمير الحى لديهم، خلاصة تجربتى أن يفعل المرء ما يجد نفسه فيه، وضعت يدى على نقاط بسيطة ذكرتها للبنات الصغيرات: «خدوا بالكم.. الحياة مش بالمظاهر، ولا هى أغانى الفيديو كليب اللى بتشوفوها، ولا صور الفيس بوك»، الحياة أعمق من هذا بكثير.. فى «هرتلات نسائية» خاطبت المراهقين والمراهقات: «يجب أن تعرف قيمة نفسك، لا تسمح لأحد بتحجيم قدراتك، لا تترك للمظاهر فرصة التحكم فيك».
وفى أحد فصول الكتاب قلت: «لو دققنا فى تفاصيل بعضنا البعض على المستوى الإنسانى كما ندقق فى تفاصيل الزواج، كنا تجنبنا فشل حالات كثير من الزيجات انتهت بسبب الشكليات».
■ فى «هرتلات نسائية»، كانت هناك جمل أقرب للتنمية البشرية، وكأنها محاولة لتقديم «المورال» فى عمل فنى.. هل كان خطابًا صريحًا موجهًا أم هى مجرد صرخة أنثى؟
– فى «هرتلات نسائية» كنت أقدم قضية، وكل قضية منفصلة عن الأخرى، ودونما ترتيب مسبق أكتب ما فى قلبى، خلصت فى نهاية رحلتى مع الكتاب إلى قضية الزواج والطلاق، تساءلت: لماذا تعانى المطلقة هكذا فى المجتمعات العربية، لماذا يعلقون لها المشانق؟.. عاصرتها وهى بعد فتاة مراهقة تنتظر فتى أحلامها، ووصلت معها للحظة الفارقة التى تجبر فيها أو تقرر طلاقها، سعيت معها للمصالحة مع الذات أن تكتفى بنفسها، تتأكد أنه لا حاجة لها برجل تتحقق من خلاله.
حتى اطمأن قلبى إلى أنها أخذت منى حقها وأكثر كأنثى، فتوقفت عن هذا النوع من الكتابة، وقررت خوض تجربة الرواية، فجاءت «شىء مني» كوسيلة جديدة للتعبير عن الذات، كانت هذه الرواية بالنسبة لى «الهوية والغربة»، وكما قلت هناك «مورال» فى كل عمل أكتبه، وقضية أدور فى فلكها. يمكننى القول إن كل أعمالى جزء لا ينفصل عنى ولا عن مفاهيمى ومعتقداتى. الكاتب الحقيقى لا يستطيع أن يفصل نفسه عن قلمه وإبداعه.
■ هل لهذه الأسباب تصرين على بقاء «مريم» فى ثنايا كتبك أو بين سطور رواياتك؟
– لا أكتب سيرة ذاتية، لكن روح الكاتب لابد أن تنعكس فى شخصياته. أنا كل شخصيات العمل التى تعيش مواقف معينة، مضافا إليها خيالى وإبداعى، فكيف يكون الكاتب حقيقيا ولا يضيف ثقافته وخياله؟.. من يقرأ «شيىء منى»، و«ذلك الغريب»، سيدرك أننى هنا، وهو ما أردت التفرد والتميز به، أن تؤكد روحى الحقيقية الطافية على لغة الكتابة ومفرداتها لقارئ عادى أن «مريم هرموش» حاضرة رفقة شخصياتها، وبين الحروف، وفى قلب المعانى.
■ متى جال بخاطرك أنك ستكونين يومًا ما كاتبة.. وهل كانت أحلام الطفولة كما تمنيتِ لها الآن؟
– حلمت وأنا طفلة أن أكون طبيبة، وفى سن المراهقة سألنى والدى: لماذا طبيبة؟ قلت ببراءة: «لا أرغب فى رؤية أحد يتوجع»، كم تمنيت أن أكون «جراحة كبيرة» باعتبار أن الجراح – وفق مفهوم طفلة – يعالج الجميع.
كبرت ونضجت ولم يخطر ببالى مطلقا أن أنتهج هذا النهج مستقبلا. امتهنت وظائف صعبة: مسؤولة بنكية ومستشارا للهجرة بكندا.. أعمال كلها تحتاج لتفكير عميق، لكن بقيت طوال هذه الفترة أرغب فى القراءة والكتابة، ولا وقت لدى لتحقيق شغفى هذا.
كنت قد بدأت الكتابة ولم أكمل 12 عاما، كانت ملاذى كلما أردت الشكوى، أو أصابنى ضيق، أكتب وأمزق أوراقى فأرتاح. إذا تأثرت بأمر ما أو عشت حالة ما أكتب شعرا موزونا وحقيقيا، تعجبت لأمرى واحتفظت ببعض قصاصاتى لفترات طويلة، وعندما شعرت بعدم الرضا عنها تخلصت من قصائدى.. فقط كانت «أياما حلوة» وانتهت لحالها.
■ نشرتِ كل أعمالك فى مصر.. كيف تنظرين لهذا الأمر؟
– تربيتُ على أن مصر من أكثر الدول التى ترمز للثقافة.. وحتى الآن، للثقافة بها مكانة خاصة، فحتى الشباب الذين يظلمهم البعض بوصفهم «شبابا لا يقرأ»، ستجدهم فى القرى والنجوع وفى الطرقات وفى كل ركن فى مصر يقرأون ويناقشون.. لماذا توقفنا عند حقب زمنية محددة وأسماء معينة دون أن نحتضن نماذج شابة، لو أتيحت لهم الفرصة لخرج لنا نجيب محفوظ، وطه حسين ويوسف السباعى وغيرهم؟.. نتعامل كما لو أن مصر عقرت عن إنجاب العباقرة، وهى التى قدمت للعالم كله عددا من العظماء يصعب حصره.
■ ونحن فى خضم الحديث عنهم.. حصل عدد كبير من كتابنا الشباب على جوائز أدبية مرموقة محليا ودوليا.. كيف تنظرين للجوائز بشكل عام؟
– لست مع أو ضد، لكنها فى المجمل ليست رهانا لدىَّ، ولا تعنى لى شيئا، لأن الكثير منها يدخل فى نطاق المحسوبية، والتأثر بـ«التريند» والسوشيال ميديا، حتى إن بعض الأعمال يفوز لاهتمامها بقضايا عامة مطروحة وليس لتميزها إبداعيا ونقديا، فى حين أن هناك أعمالا وروايات أخرى قد تكون أهم بكثير من حاصدة الجوائز.. وعن نفسى لم أتقدم أبدا لأى جائزة، وأنصح أى كاتب بأن يكتب لأنه يحب فعل الكتابة، ولأنه مشغول بأمر ما يريد التعبير عنه، ولا يكتب وهو يضع نصب عينيه جائزة أو تكريمًا.
■ ولدتِ فى لبنان.. كانت ولاتزال عاصمة للثقافة والصحافة والنشر، رغم كل الظروف التى تعصف بها.. أين لبنان منك الآن وأنتِ تقيمين فى مصر منذ عقود؟
– غادرت لبنان وعمرى تسع سنوات، ولم أنقطع عنها طوال حياتى، ولا يزال كل أهلى وأصدقائى هناك.. بالطبع تأثرت بطبيعة لبنان وبهذه الثقافة المنفتحة على العالم كله المتداخلة مع ثقافات شتى.. أنصت باهتمام وفخر لإعلاميى بلدى، مستمتعة بمخارج ألفاظهم ولغتهم العربية الصحيحة.. قرأت لكل كتاب وأدباء لبنان، لكن يبقى جبران الأقرب إلى قلبى. أسرح كثيرا فى عالمه كلما قرأت جملة أو اثنتين، أشعر كثيرا أنه يشبهنى على المستوى الروحانى، وكم تمنيت وحلمت بمقابلته وأن أعيش عصره، لهذا أعشق التجول والسفر إلى أماكن ارتبطت باسمه.
كذلك ميخائيل نعيمة وكتابه البديع «اليوم الأخير»، الذى يجسد فيه تجربة إنسان تناهى إليه عند منتصف الليل أن الساعات الأربع والعشرين المقبلة هى آخر ما تبقى له من فسحة العمر.. أتساءل: كيف يصل كاتب لمثل هذا العمق وذاك الألق فى كتاب لا يتخطى 170 صفحة، يزخر بجمل شعرية وتشبيهات وبديع أعجز عن وصفها أحيانا؟!.. ربما لهذه الأسباب وتلك المتعة سيبقى لبنان وأهله وكُتابه وأدباؤه عشقى الذى لن يتغير.
■ لمن تقرأ «مريم هرموش»؟
– فى المطلق، أحب قراءة الرواية والفلسفة والكتابة المرتبطة بالمعرفة الذاتية على المستوى الروحى. وعالميًّا، أقرأ للكاتبة والشاعرة والناقدة الكندية مارغريت آتوود، لأنها تناقش قضايا قريبة من تلك التى أحب تناولها ومناقشتها، استمتعت حقا برواياتها البديعة، ومنها: «السفاح الأعمى»، و«الحياة قبل الإنسان».
وبالنسبة للكتاب المصريين، فكاتبى المفضل هو «عيسى بيومى»، بدأت قراءته بكتاب «الدين فى مستقبل البشرية»، ثم قرأت كل أعماله.. وقرأت بالطبع ومازلت لنجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ونوال السعداوى التى شكلت لى ظاهرة فريدة.. كذلك كان طه حسين عميد الأدب العربى عن جدارة، والأيقونة التى حققت كل شىء وهو ضرير فقير، حتى وصل إلى ما لم يسبقه إليه أحد، جامعا بين علوم الشرق والغرب، وهو الذى من خلاله أيقنت أن الإرادة إذا وجدت، سخرت أمامها كل شىء.