الرئيسية / أخبار / سوزان سونتاغ: عن المرأة وتناقضاتها
447

سوزان سونتاغ: عن المرأة وتناقضاتها

**سناء عبد العزيز..”ضفة ثالثة.
يساور الناقد بعض القلق حين يطلب منه كتابة مقدمة لعمل سابق، خشية أن يصطدم بأفكار من بقايا ماض بعيد وأقل استنارة. لهذه الحقيقة تنبهنا الكاتبة والأكاديمية ميرفي إمر في مستهل مقدمتها لكتاب سوزان سونتاغ “عن المرأة”، الذي صدر في 30 مايو/ أيار 2023 عن دار بيكادور للنشر، وهو عبارة مجموعة من المقالات والمقابلات كتبتها سونتاغ بين رحلتها إلى فيتنام في عام 1968، وأول تشخيص لها بالسرطان في 1975، ونشرت متفرقة في زمن يختلف جذريًا في منظومة عاداته وقيمه، لا سيما في ما يتعلق بالمرأة، ومقدار ما أتيح لها من حرية آنذاك، سواء على مستوى الفكر، أو العمل. فهل من الممكن لجيل الألفية الثالثة، الذي ولد وتربى في ظل حرية غير مسبوقة، أن يجد في أفكار سونتاغ بعد سبعين عامًا أي استرشاد يذكر؟

مع المرأة أم ضدها؟
كانت “المرأة” أحد الموضوعات الثلاثة التي درستها سونتاغ طوال حياتها، ومع تصاعد الحركة النسوية في أميركا السبعينيات من القرن الماضي، بدأت مثل غيرها من الكاتبات البارزات تشارك في الحوار الدائر، غير أنه كان حوارًا محفوفًا بالمخاطر بالنسبة لطبيعة سونتاغ وشخصيتها المعقدة. وسرعان ما حامت حولها الشبهات، وحدت ببعض منتقديها إلى التساؤل عن حقيقة علاقتها بالجنس الثاني: هل أحبت سونتاغ المرأة وتعاطفت بالفعل مع همومها، أم راحت ترصدها من برجها العاجي، مستشهدين ببعض ردودها الصارمة وتصريحاتها المخيفة عن الخادمات والعوانس، وتعميمها الحكم على جميع النساء بأنهن يكذبن بشكل روتيني بشأن أعمارهن، ويكفي ردها الساخر على الشاعرة أدريان ريتش حين اعترضت على ما جاء في مقالها الوارد في هذا الكتاب “الفاشية الساحرة” بأن النسويات يتحملن جزءًا من المسؤولية في تحويل أفلام المخرجة ليني ريفنستال إلى آثار ثقافية. عرفت ريفنستال بصداقتها لأدولف هتلر، لكن ريتش أشارت بجرأة إلى انتقاد سونتاغ المستمر للنساء الناجحات، سواء كن فنانات، أو مديرات، أو طبيبات، أو ماركسيات، أو سياسيات، أو باحثات، كما اتهمتها النسوية، ما دفع سونتاغ إلى الرد عليها: “أليست ريتش مثل جميع النسويات، أولئك المتذمرات ذوات التفكير الضحل”.
“هل أحبت سونتاغ المرأة وتعاطفت بالفعل مع همومها، أم راحت ترصدها من برجها العاجي؟”
هذه الآفة موجودة في كل مكان على طول الكتاب، تصرح راشيل كوك في مراجعة على صفحات الغارديان البريطانية: “في البداية، انجذبت إلى الحركة النسوية، أو على الأقل كانت مستعدة لخوض غمارها؛ لربما كان هذا سيفيدها. ولكن يبدو الأمر كما لو أنها لم تقرأ أي شيء: لا بيتي فريدان، أو كيت ميليت، ولا صفحة واحدة من مختارات روبن مورغان الكلاسيكية عن تحرير المرأة”. في استعراض آخر على الغارديان، تتساءل أوليفيا لينغ: “هل كانت سونتاغ تحب المرأة حقًا؟ لست متأكدة من ذلك، وهو ما جعل وصول الحركة النسائية في أوائل السبعينيات احتمالًا معقدًا. هل أرادت الصعود على متن السفينة، أم إغراقها؟ أنا لا أتحدث عن حياتها الخاصة بالطبع. فقد كانت تحب وتشتهي كثيرًا من النساء. على الرغم من أنها رفضت الاعتراف علنًا بأنها مثلية، إلا أن معظم علاقاتها الجنسية كانت مع النساء”. لكن هل أفادت عضويتها للجنس الثاني مشروعها العام في أن تصبح سونتاغ؟ انطلاقًا من الأدلة هنا، فإن تلك العضوية كانت بمثابة جواز مرور ذا وجهين، أحيانًا يتوهج عند الحدود، وأحيانًا يتم الاستخفاف به. تفسر ميرفي ما سبق بأن سحر سونتاغ الفريد من نوعه قد تسبب في إجحافها، سيما وأنها كانت محصنة ضد محن “النساء العاديات”، وهو ما نستشفه من مقال “استبيان” الذي يقدم سيرة خاطفة عن مراحل تكوينها في الجامعة ابنة خمسة عشر ربيعًا، امرأة متزوجة في سن السابعة عشرة، مطلقة في الرابعة والعشرين، مستقلة، واثقة من نفسها بقوة، تسافر عبر العالم من دون حماية من رجل.

مسرح استعباد النساء
يتألف الكتاب من سبع قطع مرتبة ترتيبًا زمنيًا، ترصد التغيرات الحاصلة في أسلوب سونتاغ خلال سنوات قليلة وفاصلة. قام باختيارها وتحريرها ابنها الكاتب ديفيد ريف. أربع منها جدلية، واثنتان على شكل حوار، بينما الأخيرة هي الرد المطول على الشاعرة أدريان ريتش، التي انتقدتها على الملأ، واتهمتها بالإخفاق في الربط بين الفاشية والنظام الأبوي.
تحت عنوان “المعيار المزدوج للشيخوخة” ترصد سونتاغ مجتمعها الأميركي، الذي اتخذ من الحرية رمزًا له، بينما لم يستنكر على نفسه أن يكيل بمكيالين؛ ففي حين يتساهل مع تقدم الرجال في السن، ينزع عن المرأة صفة الأنوثة حين يصيبها الكبر، وما يزيد الطين بلة أن ترتهن قيمة الجمال عنده بسن الصبا، فإذا ما تقدم السن بتلك الجميلة، لم تعد كذلك. تعتقد سونتاغ أن المرأة لا تحقق النضج الجنسي إلا في سن الثلاثين، و”بالتأكيد متأخرة جدًا عن الرجل، ليس لأسباب بيولوجية فطرية، ولكن لأن هذه الثقافة تؤخر المرأة. نظرًا لحرمانها من معظم منافذ الطاقة الجنسية المسموح بها للرجل، فإن الأمر يستغرق من النساء وقتًا طويلًا للتخلص من بعض الموانع. المعيار المزدوج بشأن الشيخوخة يخدع النساء في تلك المرحلة، بين الخامسة والثلاثين والخمسين، مع أنها أفضل فترة في حياتهن الجنسية”.
انشغلت أيضًا بموضوع الجمال في مقالين بعد ذلك، “جمال المرأة: إهدار أم مصدر قوة؟”، و”الجمال: كيف يتغير لاحقا؟”، لتسلط الضوء على إمكانات المرأة المتعددة والأكثر استحقاقا بالالتفات إليها، وتنبه بنات جنسها لما انخرطن فيه لصالح الرجل، لتمكينهن من علاقة سوية وأطول عمرًا يسودها الاحترام المتبادل، ما دام عماء المجتمع يصر على تقليصها في جسد بض ووجه جميل. تقول سونتاغ “جمال المرأة هو مسرح استعبادها”، فخ وضعها التاريخ فيه، وعليها التخلص من قيودها، لا بالثورة، ولا بقلب النظام الجائر، وإنما بالتوقف عن الكذب بشأن سنها، والإلقاء جانبًا بالمرآة وأحمر الشفاه، وهو ما وصف بالأفكار السخيفة والصبيانية، التي لا تختلف كثيرًا عن وصفها للشيخوخة بأنها مجرد مرض من أمراض الخيال، وليست بحقيقة بيولوجية لا يمكن للمرء الفكاك منها.
“ترصد سونتاغ مجتمعها الأميركي، الذي اتخذ من الحرية رمزًا له، بينما لم يستنكر على نفسه أن يكيل بمكيالين؛ ففي حين يتساهل مع تقدم الرجال في السن، ينزع عن المرأة صفة الأنوثة حين يصيبها الكبر”

تُظهر سونتاغ تناقضها غير المبرر، ربما للوهلة الأولى، حين تحث النساء في موضع آخر على الثورة تحت راية العنف بمداهمة صالونات التجميل، وتمزيق الإعلانات الجنسية، كما في مقالها عن الإيدز واستعاراته، حين تصف نفسها بأنها “غير خائفة على الإطلاق”، في الوقت الذي تنفضح فيه حقيقة رعبها في مذكراتها بعيدًا عن أعين الرقباء.

الحرية كمرادف للموت
في “العالم الثالث للمرأة”، لا تجد مناصًا من الإقرار بأن المرأة تواجه صعوبة في التنظيم، هذا العقل الفوضوي بامتياز والمحتشد لآخره بالتفاصيل، لكن “تحريرها ضرورة لا غنى عنها لبناء مجتمع عادل ـ وليس العكس، كما يدعي الماركسيون دائمًا”، ولا يفوتها أن توجه إصبع الاتهام إلى النساء اللوائي لا يحترمن بعضهن بعضًا، ولا يأخذن أندادهن على محل الجد. ومع حرصها على إبعاد نفسها عن خطاب النسويات الاشتراكيات والماركسيات، واقتناعها التام بأن العمل هو مصدر الفخر والتحقق والتميز، أدركت أن سلامة الأسرة تعتمد على استغلال عمل المرأة المنزلي غير المدفوع الأجر. وأن “المرأة التي حصلت على حرية الخروج إلى العالم وما زالت تتحمل مسؤوليات التسوق والطبخ والتنظيف والأطفال عند عودتها من العمل ضاعفت ببساطة من مجال عملها”، لكن النتيجة الحتمية للحركات النسوية التي تطالب بالمساواة الكاملة ذاتيا وموضوعيًا، هو أننا سنتحول إلى مجتمع مخنث، حيث تنمحي التعددية في أشكال الكينونة، بينما ما هو أحق بالمحو، ذلك التصنيف للنوع الإنساني إلى رجال ونساء واعتباره هوية، فإذا ما سعينا جميعًا لرفض هذا التصنيف لن تكون هنالك حاجة للنساء لتأسيس ثقافة خاصة، ولا للبحث عن غرف تخصهن وحدهن. وهي تقدم نفسها كمثال للنموذج المطلوب في وقتها “تعيش حياة كاملة وحرة وخيالية على قدر وسعها”، وتحافظ دائمًا على “تضامنها مع النساء الأخريات”.
المدهش في أمر سونتاغ حقًا أن كتابتها عن المرأة لم تضف إلى رصيدها بقدر ما انتقصت منه، تصنف كوك تلك المقالات بأنها “كتابة من الدرجة الثانية: فهي تأتي بلا ضوء أو ظل؛ وتتصف بالتعميم، بحيث لا يمكن أن تصطاد حججها (ظلت جملها تنزلق من ذهني). هل كانت صغيرة؟ لا، في عام 1972 كانت سونتاغ تبلغ من العمر 40 عامًا تقريبًا”.
ولكنها حين تترك المرأة وراءها، وتتطرق إلى موضوعها الأساسي؛ الموت، متتبعة حركته البطيئة في تآكل إحساس المرء بذاته، وتراجع إمكانات الحياة أمام عينه، تظهر نبرتها العالية الفريدة، وهو ما يشغل الربع الأخير من كتابها. تختتم لينغ: “عند قراءة الكتاب، يدرك المرء أن نصوصة محاصرة بالموت ـ وأن فكرة سونتاغ الكاملة عن النساء كانت ضاجة بالموت، ويطاردها الوعي بالفناء. وأن ما تريد حقًا أن تكتب عنه هو الموت والتاريخ، وتكاثر الصور والجسد المعذب المقزز في رحلته عبر دمار الزمن. أما عن كتابها الجديد، فإنه ليس بكتاب جيد عن المرأة، ولكنه عن سونتاغ نفسها ـ مكائدها ورفضها ـ كما أنه يكشف عن وجه حقيقي لامرأة بعد أن أزالت المكياج”.

شاهد أيضاً

خلالالالا

«الخليج» الأفضل في تنفيذ مبادرات «التنوع والشمولية» و«تمكين المرأة»

تقديرا لدوره الرائد في تنفيذ مبادرات نوعية لتعزيز التنوع والشمول داخل البنك وخارجه، منحت مجلة …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Powered by moviekillers.com