في عالم تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والاجتماعية، تبرز قصص نجاح ملهمة تبرهن على قدرة المرأة على إعادة تشكيل ملامح القطاعات الحيوية. ومن أبرز هذه القصص قصة هدى الغصن، الرائدة السعودية التي استطاعت أن تكسر الصورة النمطية لصناعة النفط والغاز بوصفها مجالًا ذكوريًا بامتياز. التحاقها بشركة أرامكو عام 1981 كانت خطوة جريئة في وقت كانت فيه مشاركة المرأة محدودة، لكنها حولت هذه البداية إلى مسار مهني استثنائي توج بتوليها منصب المدير التنفيذي للموارد البشرية عام 2012.
هذا الإنجاز لم يكن مجرد نجاح فردي، بل يمثل نقطة تحول تاريخية تسلط الضوء على دور المرأة السعودية في تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني والمساهمة في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.
التعليم.. مزيج الأدب والإدارة
كان تكوين الغصن الأكاديمي أحد العوامل التي منحتها رؤية متوازنة بين البعد الإنساني والجانب المؤسسي. فقد حصلت على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الملك سعود عام 1980، ما أتاح لها فهمًا عميقًا للثقافة واللغة والتواصل. لاحقًا، أكملت ماجستير إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية في واشنطن عام 1986، وهو ما منحها أدوات عملية لإدارة التغيير والتطوير المؤسسي، بحسب ما أوضحته Energy Council في تحليلها لمسيرتها. هذا التنوع الأكاديمي سمح لها ببناء فلسفة إدارية تضع الإنسان في قلب الاستراتيجية المؤسسية.
مسيرة تصاعدية نحو القيادة
تدرج الغصن في المناصب داخل أرامكو كان مثاليًا يعكس التزامها بالتميز والابتكار. بدأت في أدوار مرتبطة بتطوير الكوادر البشرية، ثم في عام 2006 أصبحت مديرة لسياسات وتخطيط الموارد البشرية.ض حيث كان لها دور محوري في تحديث سياسات التوظيف والتعويضات. وبعد ثلاث سنوات فقط، تم تعيينها كمديرة عامة للتدريب والتطوير. لتكون أول امرأة في تاريخ الشركة تتولى هذا المنصب. وبحسب منصة GCC Business Women. مثل هذا التعيين نقطة فاصلة أثبتت خلالها الغصن أن المرأة قادرة على قيادة ملفات استراتيجية حتى في بيئات عمل تقليدية. ثم جاء التتويج الأكبر عام 2012 بتعيينها مديرًا تنفيذيًا للموارد البشرية، حيث أشرفت على إدارة رأس المال البشري لأكثر من 60 ألف موظف حول العالم حتى تقاعدها في ديسمبر 2017.
مبادرات إستراتيجية لتغيير الثقافة المؤسسية
لا تقتصر إنجازات الغصن على تقلد المناصب، بل امتدت إلى تغيير الثقافة المؤسسية داخل أرامكو. فقد أطلقت مبادرتي Women in Business وWomen in Leadership بهدف بناء مسارات مهنية متكاملة للنساء داخل الشركة. ووفقًا لدراسة أجرتها McKinsey & Company، فقد ساهمت هذه المبادرات في رفع عدد القياديات في أرامكو من ثلاث نساء فقط إلى أكثر من 80. ما يعكس تحولُا جوهريًا في ثقافة الشركة نحو تمكين المرأة. كما عملت على برنامج STEM Pipeline الذي يشجع الفتيات على دخول تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وهو ما يتوافق مع توجهات رؤية السعودية 2030 لتعزيز المشاركة النسائية في الاقتصاد.
تمكين متدرج يواكب التحولات الوطنية
ما يميز مبادرات الغصن أنها لم تكن مجرد استجابة لموجة عالمية تدعو للتنوع والشمول. بل كانت منسجمة مع التحولات التي تشهدها المملكة. وفقًا لتقرير Arab News الصادر في 2017. فإن برامجها ساعدت على سد الفجوة بين الجنسين في قطاع الطاقة في وقت كانت المملكة تضع خططًا لتمكين المرأة عبر رؤية 2030. هذا التكامل بين المبادرات الداخلية والتحولات الوطنية أعطى دفعة قوية لنجاح برامجها على المدى الطويل.
رؤية تتجاوز الإنتاجية
أحد أهم محاور فكر الغصن هو التركيز على رفاهية الموظفين. ففي كلمتها خلال مؤتمر رفاه القوى العاملة في الكويت عام 2017. والتي وثقها الموقع الرسمي لشركة Aramco. أكدت أن الاستثمار في صحة وسعادة الموظف يحقق عوائد اقتصادية ملموسة عبر زيادة الإنتاجية وخفض معدل الدوران الوظيفي. هذا التوجه الإنساني في إدارة الموارد البشرية عزز من صورة أرامكو كشركة عالمية تراعي البعد الإنساني، وجعلها بيئة عمل أكثر جاذبية للكفاءات المحلية والعالمية.
من الداخل إلى المجالس العالمية
لم تتوقف مساهمات الغصن عند حدود أرامكو. فبعد تقاعدها في ديسمبر 2017. واصلت التأثير في المشهد الاقتصادي عبر عضويتها في مجالس إدارة كبرى الشركات مثل البنك الوطني السعودي، وشركة الاتصالات السعودية (STC). ومؤسسة Chopra Foundation، ومؤسسة Hevolution Foundation، إضافة إلى مشاركتها في لجان الترشيحات والتعويضات في شركات كبرى. وبحسب منصة Manhom. فإن هذه الأدوار تعكس استمرار تأثيرها على إستراتيجيات تنمية الكوادر البشرية على المستوى الوطني والدولي.
تكريمات دولية تعكس حجم التأثير
حصدت الغصن عدة تكريمات وجوائز مرموقة، من أبرزها إدراجها ضمن قائمة Forbes الشرق الأوسط لأقوى النساء العربيات في مجال الإدارة التنفيذية عام 2014. كما حصلت على جائزة Arab Woman Award من مجلة Arabian Business في نفس العام. وجائزة Women in Leadership من مجلس التجارة الأمريكي-العربي في 2016. إضافة إلى Golden Award for Excellence من مجلس المرأة العربية للمسؤولية الاجتماعية عام 2017. هذه الجوائز، وفقًا لتقارير GCC Business Women، تؤكد أن مسيرتها ليست محلية التأثير فحسب. بل لها بعد إقليمي ودولي في تشكيل مفهوم القيادة النسائية.
إرث يمتد إلى الأجيال القادمة
ما تتركه هدى الغصن ليس مجرد برامج وسياسات، بل إرث ثقافي وتنظيمي سيستمر في التأثير على أرامكو لعقود قادمة. وفقًا لتحليل McKinsey، فإن إستراتيجياتها في بناء قيادات نسائية شابة ستؤدي إلى خلق بيئة أكثر توازنًا واستدامة في قطاع الطاقة، وهو ما يعزز القدرة التنافسية للمملكة في السوق العالمية.
من قصة شخصية إلى نموذج وطني
تمثل هدى الغصن أكثر من مجرد قصة نجاح شخصية؛ إنها تجسيد لتحولات المملكة في تمكين المرأة ودمجها في القطاعات الإستراتيجية. إن برامجها ومبادراتها ساعدت على تغيير نظرة الشركات السعودية إلى مفهوم القيادة النسائية. ووفرت خريطة طريق عملية للانتقال من التنوع الشكلي إلى التمكين الحقيقي. وبحسب تقييم منصة Energy Council. فإن إرثها الإداري يشكل مرجعًا يمكن أن يحتذى به في دول أخرى تسعى لتحقيق التوازن بين الجنسين في أسواق العمل.