بقلم /محمد مهلهل الياسين
في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد عملية تشكيل الوعي مسألة تربوية أو ثقافية محلية، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة تتقاطع فيها المصالح التجارية مع الأجندات الفكرية العابرة للحدود. ومع هذا الانفتاح غير المنضبط، بات من السهل غرس مفاهيم مغلوطة، وتوجيه الرأي العام، وممارسة غزو فكري وثقافي ناعم، لا يأتي في صورة صدام مباشر، بل عبر إعادة تعريف القيم، وتطبيع السلوكيات الدخيلة، وتسويق التمرد على العادات والتقاليد تحت مسميات الحرية أو الحداثة.
وقد انعكس هذا الواقع على المجتمع بوضوح، خصوصًا لدى النشء والشباب، حيث ظهرت اضطرابات في الهوية، وتراجع الانتماء لمنظومة القيم الوطنية، مقابل تبني نماذج وافدة لا تراعي الخصوصية الثقافية والاجتماعية للكويت. ومع تصاعد تأثير الخوارزميات، لم يعد المحتوى الأكثر وعيا هو الأكثر حضورا، بل الأكثر إثارة، حتى وإن كان على حساب التماسك الاجتماعي والاستقرار القيمي.
– الأسرة… خط الدفاع الأول
لم يتعامل الدستور الكويتي مع الأسرة بوصفها شأنًا اجتماعيا ثانويا، بل قرر في المادة (9) أن:
«الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، ويحفظ القانون كيانها، ويقوي أواصرها، ويحمي في ظلها الأمومة والطفولة».
وهو نص واضح يجعل الأسرة الركيزة الأولى في البناء المجتمعي، ويضع أي خطاب أو محتوى يضعف بنيتها أو يشوه دورها في دائرة التعارض مع الدستور، مهما حمل من شعارات براقة. فحين يُستهدف النشء فكريًا، أو تُفرغ القيم من مضمونها، فإن الخلل لا يكون ثقافيًا فحسب، بل دستوريًا أيضًا.
– مسؤولية الدولة في حماية النشء والقيم
وجاءت المادة (10) من الدستور لتؤكد هذا الالتزام، إذ نصت على أن:
«ترعى الدولة النشء، وتحميه من الاستغلال، ومن الانحراف الخُلقي والجسدي والروحي».
وهذا يحمل الدولة مسؤولية مباشرة في مواجهة مظاهر الانحراف الفكري والأخلاقي، بما في ذلك تلك التي تُبث عبر المنصات الرقمية، حين تتحول إلى أدوات لتشويه الهوية أو تقويض القيم أو إضعاف الانتماء الوطني.
– الحرية… ليست فوضى
ورغم أن الدستور كفل حرية الرأي والتعبير في المادة (36)، إلا أنه قرنها صراحةً بما يبينه القانون، بما يؤكد أن الحرية في النظام الدستوري الكويتي حرية مسؤولة لا مطلقة. فحرية التعبير لا تعني هدم القيم، ولا تبرر التطبيع مع الانحراف، ولا تمنح حصانة لنشر محتوى يهدد النظام العام أو السلم الاجتماعي.
حين تتقدم الدول لحماية هويتها… دروس من أستراليا وأوروبا
قد يظن البعض أن الدعوة إلى تنظيم الفضاء الرقمي وحماية القيم تمثل طرحًا محافظًا أو منغلقًا، غير أن التجارب الدولية الحديثة تثبت العكس. فقد أدركت دول تُعد من أكثر المجتمعات انفتاحًا أن ترك وسائل التواصل الاجتماعي دون ضوابط يقود إلى تفكك الهوية واضطراب النشء وتآكل القيم.
في أستراليا، اتجهت الدولة إلى تشديد الرقابة على استخدام القُصّر لوسائل التواصل الاجتماعي، وناقشت تشريعات تقيّد وصول من هم دون سن معينة إلى بعض المنصات، بعد تقارير رسمية أظهرت تصاعد معدلات القلق والاكتئاب بين المراهقين، وتأثير المحتوى الرقمي على السلوك والهوية، وتراجع دور الأسرة أمام نفوذ المنصات. وقد انطلق المشرّع الأسترالي من مسؤولية الدولة في حماية النشء والصحة النفسية والاستقرار الاجتماعي، لا من اعتبارات أخلاقية مجردة.
أما في أوروبا، ورغم الإرث الليبرالي العريق، فقد اقر الاتحاد الأوروبي تشريعات صارمة، أبرزها قانون الخدمات الرقمية (DSA)، الذي حمل المنصات الرقمية مسؤولية قانونية مباشرة عن المحتوى، خاصة ما يتعلق بحماية القُصّر ومنع التلاعب بالوعي والخطاب المضلل. كما أكدت المحاكم الأوروبية أن حرية التعبير ليست حقا مطلقا، ولا يجوز أن تمارس على حساب النظام العام أو القيم الأساسية للمجتمع.
وما يجمع التجربتين هو الإقرار بأن الفضاء الرقمي ليس خارج سيادة الدولة، وأن حماية الهوية ليست رجعية، وأن التنظيم لا يعني القمع، بل الوقاية.
النظام العام… السقف الأعلى
إن النظام العام والآداب العامة يمثلان الإطار الحاكم لممارسة الحقوق والحريات، سواء في الواقع أو في الفضاء الرقمي. وحين تتحول وسائل التواصل إلى أدوات لإعادة تشكيل وعي المجتمع بعيدا عن ثوابته، فإن التدخل التشريعي والتنظيمي لا يكون تقييدا للحريات، بل حماية لها من التحول إلى فوضى مدمرة.
إن مواجهة الغزو الفكري والثقافي في زمن المنصات الرقمية ليست معركة ضد التكنولوجيا، ولا رفضًا للانفتاح، بل هي معركة وعي تستند إلى الدستور بوصفه المرجعية العليا. فالدستور الكويتي لم يكتب ليكون شاهدا صامتا على تآكل الهوية، بل ليحمي الأسرة، ويصون القيم، ويحفظ النظام العام، ويضمن توازنا دقيقا بين الحرية والمسؤولية.
وفي هذا التوازن وحده، تبنى المجتمعات المستقرة، وتحمى الأوطان من التفكك الناعم الذي لا يرى أثره إلا بعد فوات الأوان.
العصفورة نيوز موقع إخبارى نسائى