حوار: حسني كمال
في شهر رمضان المبارك تصفو القلوب، وتجدد النوايا، ويصدق العزم، وتتطلع النفوس لمعالي خصال الخير والعطاء، والبذل والعبادة، والعاقل من استنفد وقته وجهده في استثمار فرص الزمان.
وإن كانت سير الصحابة والصحابيات الكرام، ومناقب العلماء والعالمات، أحد الملهمات لعلو الهمم، فلنقطف من سيرتهم العطرة، ما يمكننا أن نطبقه في حياتنا، فننال به خيري الدنيا والآخرة.. ومعنا اليوم إحدى أمهات المؤمنين، خديجة بنت خويلد، الزوجة الأولى للنبي محمد “صلى الله عليه وسلم”.
وضيف حلقتنا اليوم، هو فضيلة الأستاذ الدكتور مبروك بهي الدين رمضان الدعدر، أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية، بكرسي الأمير سلطان بن عبدالعزيز للدراسات الإسلامية المعاصرة بجامعة الملك سعود..
وإلى نص الحوار:
** فضيلة الأستاذ الدكتور مبروك، حدثنا عن بيوتات النبي “صلى الله عليه وسلم”؟
إنّ بيت النبوة شيءٌ كبير؛ لأنه المثل الأعلى لكل بيت، حديث مودة وعطاء، وسكن وسكينة، أنموذج في كل شيء من المعاملات والسلوكيات والأخلاق، والحكمة، والتشريع، والمزاح، والجد، والتعاون، والرفق، والحب، كما فيه أيضًا – ككل البيوت – ما يعتري النفس البشرية من المشكلات الطارئة والعابرة، أو حتى اختلاف الرأي، إلا أنها بيوتات سيد البشر، جمعت بين الحكمة والعقل في كل جزئياتها.
بيوت النبي تقدم لنسائنا وفتياتنا، ورجالنا وشبابنا، نماذج حقيقية من البشر، قدمن من خلالها للبشرية أجمل وأنبل العلاقات الزوجية وبناء الأسرة في بناء المجتمع.
ولأنهن أمهات المؤمنين قدَّمن نماذج حقيقية لكل الفئات، ولكل الأعمار ولكل الأحوال، فمنهن كانت الغنية، ومنهن الفقيرة، ومنهن الجميلة، ومنهن المطلقة، ومنهن الأرملة، ومنهن مَنْ تعول ومَنْ لا تعول، ومنهن الكبيرة في السن، ومنهن البكر، ومنهن الثيّب، ومنهن ابنة أحب الناس إليه، ومنهن ابنة أحد أعداء الله ورسوله، فهن يمثلن كل فئات المجتمعات وأصنافه، ولهذا كان ذكر مقتطفات من سيرتهن لنأخذ من كل واحدة منهن الأنموذج الذي نتعلم منه شيئًا، فقد كانت الصحابيات أمهات المؤمنين مثالًا فريدًا للنساء إلى قيام الساعة.
** قبل الحديث عن أمهات المؤمنين، وأبرز مناقبهن، وما يستفاد من سيرتهن العطرة، فلعل السؤال: تلك سير وقصص مرت عبر التاريخ، فكيف نستفيد منها ونستثمرها؟
هنا لا بد لنا من مقدمة مهمة.. وهي من شقين:
الأول: أننا لسنا بصدد سرد السير الذاتية والقَصَص عن أمهات المؤمنين؛ فذلك ملء السمع والبصر في عقول وقلوب كل من يعرف بعضًا من تاريخ هذه الأمة.
ولكننا بصدد إلقاء الضوء على لمحات ومقتطفات وومضات من سيرتهن ومواقفهن؛ لنعرف كيف نستفيد منها في واقعنا، ونستثمرها في حياتنا، وهو أحد أبرز أهداف سير العظماء في التاريخ الإنساني، ومنهن هؤلاء الصحابيات الجليلات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
الثاني: يدرك الآباء والأمهات والتربويون والمصلحون والدعاة والأئمة والخطباء، أن للنموذج والقدوة أثرًا بالغًا في النفوس؛ إذ هو الشاهد على تأهل المعاني النظرية للتطبيق، وليس أدل على ذلك من عناية القرآن الكريم بالنموذج والقِصَّة، فيتكرر الحديث كثيرًا في القرآن عن قَصَص الأنبياء والصالحين، بل يضرب الله تعالى بهم مثلاً للمؤمنين، وعبرة نتعلم منها، كما قال تعالى: “لقد كان في قَصَصِهم عبرة لأولي الألباب”.
ثم إن من يتأمل سير المؤمنات من الرعيل الأول، يرى فيهن مثلًا عاليًا، وقدوة صالحة في أمور الدين والدنيا، في البذل والتضحية، والصبر والثبات، وفي طلب العلم وتحصيله، وفي الخُلُق الحسن، والسَّمْت الصالح، في العبادات والمعاملات، إنهن مُثلٌ وقدوات أمام الأجيال على مدى الزمان، أمام الرجال والنساء على حد سواء.
والحقيقة، أنه كلما تعمَّقنا في معرفة وتحليل شخصيات زوجات رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، ازددنا يقيناً أن للمرأة دورًا أساسيًا ومركزيًا مهمًا في المجتمع الذي تعيش فيه، إذ تستطيع المرأة أن تكون سندًا حقيقيًا، وأن تكون مشارِكةً فعالةً في ارتقاء ورقي وتقدم المجتمع وتثبيت أركانه، ووقايته من شرور الفتن والانشقاق، وأمهات المؤمنين كن متفردات في ذلك.
إضافة إلى أن المرأة ركاز المجتمعات، فإذا صَلُحَت وأدت دورها المنشود، صلح بها كل المجتمع، وإن تمتعت بما لها من حقوق، وأدت ما عليها من واجبات، كانت حاميًا قويًا، وعضدًا، وسندًا في بناء مجتمع متماسك قوي الأخلاق، متين الدعائم.
ولعل البداية الطبيعية مع أم المؤمنين السيدة (خديجة بنت خويلد) رضي الله عنها.
نعم .. هي البداية.. وهي الأنموذج المتفرد في حياة النبي “صلى الله عليه وسلم” وحياة المؤمنين.
السيدة خديجة رضي الله عنها، بنت خويلد بن أسدٍ بن عبدالعزَّى بن قصي من الذؤابة من قريشٍ نسبًا، وبيتًا، وحسبًا، وشرفًا، يلتقي نسبها بنسب النبي “صلى الله عليه وسلَّم” في الجد الخامس، ولدت في مكة المكرمة، خمسة عشر عاماً قبل عام الفيل، كانت تدعى قبل البعثة (الطاهرة)، وهي أشرف نساء قريش نسبًا، فهي سيدة نساء قريش.
تزوجت قبل النبي “صلى الله عليه وسلم” مرتين: الأول هو: عتيق المخزومي، فبقيت معه حتى وفاته، والثاني هو: أبو هالة هند بن زرارة التميمي، وبعد وفاته كان عمرها خمسة وعشرين عامًا، ولم تتزوج حتى بلغت أربعين سنة رضي الله عنها وأرضاها.
كانت رضي الله عنها، امرأة حازمة جلدة شريفة، أوسط قريش نسبًا وأكثرهم مالًا، وكل قومها كان حريصًا على الزواج منها لو قَدِر على ذلك، وقد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، لكنها لم تلتفت لهم، وكأن الله يدَّخر لها خيراً.
هنا وقفة مهمة، وهي أن السمعة الطيبة ثروة وهي المحك الأول في حياتها، والركيزة التي تقوم عليها سيرتها، والدرع الواقي لكل ما قد يعترضها من مشكلات.
السيدة خديجة والعمل
كيف كان عمل السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها؟
لم تقف السيدة خديجة بعد وفاة زوجها الثاني، ولها من الأولاد ثلاثة، بل استثمرت وقتها وجهدها في تجارة، كعادة العرب حينئذ، وكذلك بحثت عن أمناء يقومون على تجارتها، وتلك خصال الحرة الشريفة ودلالة العقل الراجح.
وخلال بحثها عمن يقوم على تجارتها وتأمنه على مالها، بلغ (الطاهرة) خديجة عن المعروف بالأمين الصادق في قومه مَا بَلَغَهَا، مِنْ صَدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ، فبَعَثَتْ إلَيْهِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَتُعْطِيهِ أَفَضْلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التُّجَّارِ.
وانظر إلى الطلب ومبرراته، قالت له: “إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعِظَمِ أمانتك، وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك.” فعرض (الصادق الأمين) الأمر على عمه أبي طالب، فقال له: “هذا رزقٌ ساقه الله إليك”، وافق (الصادق الأمين) وخرج مع غلامها مَيْسَرَة، وأوصت خديجة ميسرة: “لا تعص له أمرًا، ولا تخالف له رأيًا”، فخَرَجَ مَعَه مَيْسَرَة حَتَّى قَدِمَ الشَّامَ.
مرت الرحلة ذهابًا وإيابًا بسلام، إلا أنَّ عقل ميسرة سجَّل من المشاهدات والمعجزات والإرهاصات الكثير، آخرها أن بارك الله في التجارة بركة كبيرة.
عاد مَيْسَرَةُ، وأخبر سيدته بتفاصيل الرحلة كلها، وكيف كانت الغمامة تظله في الطريق، وعَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ عقب نزوله تحت ظل شجرة، وأمانته وصدقه وحسن معاملته، وغيرها، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً حكيمة تحسن قراءة الأحداث والمشاهد، فَلَمَّا أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ، قررت أمرًا مهما.
*المصدر /الأهرام